ها هي الروضة قد عاثت بها أيدي الخريف | |
عصفت بالسَجف الخضر وألوت بالرفيف | |
تعس الإعصار ، كم جار على اشراقها | |
جرَدتها كفَه الرعناء من أوراقها | |
عريت ، لا زهر ، لا أفياء ، لا همس حفيف | |
* | |
ها هي الريح مضت تحسر عن وجه الشتاءِ | |
وعروق النور آلت لضمورٍ وانطفاء ! | |
الفضاء الخالد اربدَ وغشَاه السحابُ | |
وبنفسي ، مثله ، يجثم غيم وضباب | |
وظلالٌ عكستها فيَ أشباح المساء ! | |
* | |
وأنا في شرفتي ، أصغي الى اللحن الأخير | |
وقَعته في وداع النور أجواق الطيور | |
فيثير اللحن في نفسي غمَا واكتئابا | |
ويشيع اللحن في روحي ارتباكا واضطرابا | |
أي أصداء له تصدم أغوار شعوري ! | |
* | |
الخريف الجهم ، والريح ، وأشجان الغروب | |
ووداع الطير للنور وللروض الكئيب | |
كلها تمثل في نفسي رمزاً لانتهائي ! | |
رمز عمرٍ يتهاوى غاربا نحو الفناء | |
فترةً ، ثم تلفّ العمر ، أستار المغيب | |
* | |
سيعود الروض للنضرة والخصب السّريّ | |
سيعود النور رفّافاً مع الفجر الطّريّ | |
غير أني حينما أذوي وتذوي زهراتي | |
غير أني حينما يخبو غداً نور حياتي | |
كيف بعثي من ذبولي وانطفائي الأبديّ ؟! | |
* | |
آه يا موت ! ترى ما أنت ؟ قاس أم حنون | |
أبشوش أنت أم جهمٌ ؟ وفيٌّ أم خؤون ؟! | |
يا ترى من أي آفاق ستنقضّ عليّه؟ | |
يا ترى ما كنه كأسٍ سوف تزجيها !! | |
قل ، أبن ، ما لونها ؟ ما طعمها ؟ كيف تكون ؟ | |
* | |
ذاك جسمي تأكل الأيم منه والليّالي | |
وغداً تلقى الى القبر بقاياه الغوالي | |
وي ! كأني ألمح الدود وقد غشّى رفاتي | |
ساعياً فوق حطام كان يوما بعض ذاتي | |
عائثاً في الهيكل الناخر ، يا تعس مآلي ! | |
* | |
كلّه يأكل ، لا يشبع ، من جسمي المذاب | |
من جفوني ، من شغافي ، من عروقي ، من غهابي | |
وأنا في ضجعتي الكبرى ، وحضن الارض مهدي | |
لا شعورٌ ، لا انفعالات ، ولا نبضات وجد | |
جثّة تنحل في صمتٍ ، لتنفى في التراب | |
* | |
ليت شعري ، ما مصير الروح ، والجسم هباء ؟! | |
أتراها سوف تبلى ويلاشيها الفناء ؟ | |
أم تراها سوف تنجو من دياجير العدم . . | |
حيث تمضي حرّةً خالدةً عبر السُدم . . | |
ساط النور مرغاها ، ومأواها السماء ؟! | |
* | |
عجباً ، ما قصة البعث وما لغز الخلود ؟ | |
هل تعود الروح للجسم الملقّى في اللحود ؟ | |
ذلك الجسم الذي كان لها يوما حجابا ! | |
ذلك الجسم الذي في الأرض قد حال ترابا ! | |
أو تهوى الروح بعد العتق عودا للقيود ؟! | |
* | |
حيرةٌ حائرةٌ كم خالطت ظنّي وهجسي | |
عكست ألوانها السود على فكري وحسّي | |
كم تطلعت ؛ وكم ساءلت : من أين ابتدائي؟ | |
ولكم ناديت بالغيب : الى أين انتهائي؟ | |
قلقٌ شوَش في نفسي طمأنينة نفسي! |
خريف ومساء
للشاعرة/ فدوى طوقان