لا أنتمي لهذا الضوء
دعوني أعدّ حبيبات الغبار أعدّها إلي آخرها. فأنا لا أنتمي لضوء الظهيرة، ولا للشمس؛ تعدّها معي علي مهلٍ كجدة. الذين تركوا الغبار علي حذائي المجهد من التيه يفتحون الآن للشمس شقوق الجدار ويحلبون أشعتها كما يفعل الرعاة في المحل؛ نيامًا تحت أجساد مواشيهم.
الآن، تكشف الشمس جبين الحطاب الذي يقطّع ذهني بفأسه.
أما أنا فلا أنتمي لهذا الضوء، بل للعتمة التي تقودني إلي لحظةٍ أفكر فيها كيف سأقطّع فأس الحطاب وأعاود عدّ الغبار. غرب السلاسل إلي أي غربٍ تأخذني رياح النهر؟ أنا التي وقفتُ برفقة أمي علي الضفة ثم نسيتُ من تكون.
أينا المسافر يا نهرُ أينا الذي حزم سلاسل ذاكرتنا الصدئة ومضي؟
بعد قليل، سأتبع اتجاه الريح والحديد المشبع بالهواء ولكني لن أجد أحدًا ليقول لي: "أكلت الطحالبُ صدأ السلاسل وغرّبتُ وحدي".
أينا المسافرُ يا نهرُ أنا أَم أمي السمكة؟
مصرع وِحْدة الفضيحة تأمرني بصحبتها والسّر يشدّ خجلي من ذراعيه. يمشي الوجه في الفضيحة
وترقد العينان تحت سطح السرّ تحت نظارتي الشمسية: هي لا تحميني من أشعة الشمس؛ بل من نظراتهم المحدّقة في مؤخرات النمل علي الطريق.
تحت النظارة أسمع أصواتاً..
في بالي أن أقذف بزينة "المحتفلين بالستين" أن أقرأ مع قطتي التي لم اسمّها بعد أن ألعق بوظتي بشراهة وأن أشتمُ أحداً بصوت عالٍ. تكفيني: شمس حارة، عدسة رخيصة، وعينان ضعيفتا النظر؛ حتي تتوقف الرغبةُ عن أن تكون رغبةً. أفحص أقصي الاحتمالات: هل لي أن أقتل ما أشاء دون أن يعثر علي الجاني أحد؟ فكرتُ، وترددت: أين سأفرغ حمولتي الزائدة من الحرية؟ عطش أجلس في المقهي؛ أشرب دخان سيجارة جدةٍ علي الرصيف، أشرب ذقن يهوديّ متديّن، أشرب ممرّ مشاة وخطواتهم الآمنة، أشرب رسائل البريد المجاور إلي بلاد العالم الأول، أشرب أسهم البورصة تتقافز في الهواء، أشرب ألوان الإشارة الضوئية. وعندما أعطش في الليل، ولا أجد غير عزلتي، أشربها. أعود صباحًا إلي المقهي، وأشرب قهوتي. إعلان وفاة الأسماك التي سبحت في دمي، بعد صراعٍ مريرٍ مع ورمٍ في الذاكرة، ماتت.
لم أذكر أنني هاتفتكَ قبل أن أغفو ولم أذكر أيضًا أنك لم تُجب لنداءات الأورام والدم. كان صوتها يعبر الحواجز العسكرية متقطعًا؛ والجنود الصغار يفتشونه موجةً موجة.
الأسماك التي سجّلت علي دفتر الملاحظات تاريخ اللقاء الأول، وشكل الطاولة المعزولة التي جالستنا ساعاتٍ نتحدث عن حزبيَ المحروق، احترقت هي الأخري.
لم أجد أحدًا ليسجّل تاريخ وفاتها. الآنَ، لا أجد جثثها. لا أجد غير دمي المتعفن من رائحة الموت ومن غيابكَ.
إحتمال أن أشمَّ عطركَ في الهواء هو حتمًا من طبائع البشر لا الأسماك. ولكنّها اليوم لم تأتني في المترو ككل مرة. منذ الآن، سوف أجلس قرب الرجال فقط، علّها تنخر أنفي كغاز الطبخ. ولكني كلما ذقت شيئًا منها توحّشت؛ أنهش العطور المصفوفة علي رفوف المحلات الأنيقة خفية. أضع شيئًا منها علي رُسغي وأحرق بها ما فيّ من "دي إن إي" الأسماك. وعندما تتبخّر أكون قد نسيت كليكما. وأجدني فجأةً قِرشًا افترسَ نفْسه |